كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وهكذا تمضي دورة السنة.. السعيد من وعى أنها السنة، ومن وعى أنه الابتلاء؛ فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه. والشقي من غفل عن هذه الحقيقة، وظن أنه أوتيها بعلمه، أو أوتيها بحيلته، أو أوتيها جزافاً بلا تدبير!
وإنه لما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو المستهتر الفاسد، أو الملحد الكافر، ممكناً له في الأرض، غير مأخوذ من الله.. ولكن الناس إنما يستعجلون.. إنهم يرون أول الطريق أو وسطه؛ ولا يرون نهاية الطريق.. ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث.. والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون- في حياتهم الفردية القصيرة- نهاية الطريق؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق!
إن هذا النص في القرآن: {فأهلكناهم بذنوبهم}.. وما يماثله، وهو يتكرر كثيراً في القرآن الكريم.. إنما يقرر حقيقة، ويقرر سنة، ويقرر طرفاً من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ..
إنه يقرر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم؛ وأن هذه سنة ماضية- ولو لم يرها فرد في عمره القصير، أو جيل في أجله المحدود- ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب.. كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ: فإن هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال؛ من عوامله، فعل الذنوب في جسم الأمم؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار؛ إما بقارعة من الله عاجلة- كما كان يحدث في التاريخ القديم- وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي، الذي يسري في كيان الأمم- مع الزمن- وهي توغل في متاهة الذنوب!
وأمامنا في التاريخ القريب- نسبياً- الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي، والدعارة الفاشية، واتخاذ المرأة فتنة وزينة، والترف والرخاوة، والتلهي بالنعيم.. أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله في انهيار الإغريق والرومان- وقد أصبحوا أحاديث- وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله، وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة، كفرنسا وانجلترا كذلك- على الرغم من القوة الظاهرة والثراء العريض.
إن التفسير المادي للتاريخ يحذف هذا الجانب حذفاً باتاً من تفسيره لأطوار الأمم وأحداث التاريخ، ذلك أن وجهته ابتداء هي استبعاد العنصر الأخلاقي من الحياة، واستبعاد القاعدة الاعتقادية التي يقوم عليها.. ولكن هذا التفسير يضطر إلى مماحكات مضحكة في تفسير أحداث وأطوار في حياة البشرية لا سبيل إلى تفسيرها إلاّ على أساس القاعدة الاعتقادية.
والتفسير الإسلامي- بشموله وجديته وصدقه وواقعيته- لا يغفل أثر العناصر المادية- التي يجعلها التفسير المادي هي كل شيء- ولكنه يعطيها مكانها الذي تستحقه في رقعة الحياة العريضة؛ ويبرز العناصر الفعالة الأخرى التي لا ينكرها إلاّ أصحاب العناد الصفيق لواقعيات الوجود.. يبرز قدر الله من وراء كل شيء؛ ويبرز التغير الداخلي في الضمائر والمشاعر والعقائد والتصورات؛ ويبرز السلوك الواقعي والعنصر الأخلاقي.. ولا يغفل عاملاً واحداً من العوامل التي تجري بها سنة الله في الحياة..
ثم يمضي السياق يصور طبيعة العناد، التي ينبعث منها ذلك الإعراض؛ فيرسم نموذجاً عجيباً من النفوس البشرية.. ولكنه نموذج مع ذلك مكرور، يجده الإنسان في كل عصر وفي كل بيئة وفي كل جيل.. نموذج النفس المكابرة، التي يخرق الحق عينها ولا تراه! والتي تنكر ما لا يُنكر لأنه من الوضوح بحيث يخجل المخالف أن ينكره! على الأقل من باب الحياء!.. والقرآن يرسم هذا النموذج شاخصاً في كلمات قلائل على طريقة التعبير القرآني المبدعة المعجزة في التعبير والتصوير:
{ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين}..
إنه ليس الذي يجعلهم يعرضون عن أيات الله، أن البرهان على صدقها ضعيف، أو غامض، أو تختلف فيه العقول. إنما الذي يجعلهم يقفون هذا الموقف هو المكابرة الغليظة والعناد الصفيق! وهو الإصرار مبدئياً على الرفض والإنكار وعدم اعتبار البرهان أو النظر إليه أصلاً! ولو أن الله- سبحانه- نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن، لا عن طريق الوحي الذي لا يرونه؛ ولكن في ورقة منظورة ملموسة محسوسة؛ ثم لمسوا هم هذه الورقة بأيديهم- لا سماعاً عن غيرهم، ولا مجرد رؤية بعيونهم- ما سلموا بهذا الذي يرونه ويلمسونه، ولقالوا جازمين مؤكدين:
{إن هذا الا سحر مبين}.
وهي صورة صفيقة، منكرة، تثير الاشمئزاز، وتستعدي من يراها عليها! صورة تثير النفس لتتقدم فتصفعها! حيث لا مجال مع هذه الجبلات لحجة أو جدل أو دليل!
وتصويرها على هذا النحو- وهي صورة تمثل حقيقة لنماذج مكرورة- يؤدي غرضين أو عدة أغراض: إنه يجسم للمعارضين أنفسهم حقيقة موقفهم الشائن الكريه البغيض؛ كالذي يرفع المرآة لصاحب الوجه الشائه والسحنة المنكرة، ليرى نفسه في هذه المرآة، ويخجل منها!
وهو في الوقت ذاته يستجيش ضمائر المؤمنين تجاه إعراض المشركين وإنكار المنكرين؛ ويثبت قلوبهم على الحق، فلا تتأثر بالجو المحيط من التكذيب والإنكار والفتنة والإيذاء.
كذلك هو يوحي بحلم الله الذي لا يعجل على هؤلاء المعارضين المكذبين، وهم في مثل هذا العناد المنكر الصفيق.
وكلها أسلحة وحركة في المعركة التي كانت تخوضها الجماعة المسلمة بهذا القرآن في مواجهة المشركين.
بعد ذلك يحكي نموذجاً من اقتراحات المشركين، التي يمليها التمحل والعناد، كما يمليها الجهل وسوء التصور.. ذلك إذ يقترحون أن ينزل الله- سبحانه- على الرسول صلى الله عليه وسلم ملكاً يصاحبه في تبليغ الدعوة؛ ويصدقه في أنه مرسل من عند الله.. ثم يبين لهم ما في هذا الاقتراح من جهل بطبيعة الملائكة، وبسنة الله في إرسالهم، كما يبين لهم رحمة الله بهم في أن لا يستجيب لهم فيما يقترحون:
{وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون}..
وهذا الاقتراح الذي كان المشركون يقترحونه؛ والذي اقترحه من قبلهم أقوام كثيرون على رسلهم- كما يحكي القرآن الكريم في قصصهم- والرد القرآني عليه في هذا الموضع.. هذا وذاك يثيران جملة حقائق نلم بها هنا بقدر الإمكان:
الحقيقة الأولى: أن أولئك المشركين من العرب لم يكونوا يجحدون الله؛ ولكنهم كانوا يريدون برهاناً على ان الرسول صلى الله عليه وسلم مرسل من عنده؛ وأن هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم منزل من عند الله حقاً. ويقترحون برهاناً معيناً: هو أن ينزل الله عليه ملكاً يصاحبه في الدعوة ويصدق دعواه.. ولم يكن هذا إلا اقتراحاً من اقتراحات كثيرة من مثله، ورد ذكرها في القرآن في مواضع منه شتى. وذلك كالذي ورد في سورة الإسراء، وهو يتضمن هذا الاقتراح، واقتراحات من نوعه تدل كلها على التعنت الذي وصفته الآية السابقة، كما تدل على الجهل بكثير من الحقائق الكونية وكثير من القيم الحقيقية: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً} (الإسراء: 89-95).
ومن مثل هذه الاقتراحات يتبين التعنت كما تتبين الجهالة.. وإلا فقد كان لهم من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعرفونه جيداً بالخبرة الطويلة؛ ما يدلهم على صدقة وأمانته وهم كانوا يلقبونه الأمين، ويودعون لديه أماناتهم حتى وهم معه على أشد الخلاف؛ وقد هاجر صلى الله عليه وسلم وترك ابن عمه علياً رضي الله عنه يرد إلى قريش ودائعهم التي كانت ما تزال عنده؛ وهم معه على الخلاف الذي يدبرون معه قتله! وكذلك كان صدقه عندهم مستيقناً كأمانته؛ فإنه لما دعاهم أول مرة دعوة جماعية جهرية على الصفا- حين أمره ربه بذلك- وسألهم: إن كانوا يصدقونه لو أنبأهم بنبأ، أجابوه كلهم بأنه عندهم مصدق.
فلو كانوا يريدون أن يعلموا صدقه لقد كان لهم في ماضيه برهان، ولقد كانوا يعلمون: إنه لصادق.. وسيأتي في سياق السورة خبر الله الصادق لنبيه: أنهم لا يكذبونه {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} فهي الرغبة في الإنكار والإعراض؛ وهو العناد والاستكبار عن الحق. وليس أنهم يشكون في صدقه صلى الله عليه وسلم!
ثم لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون. فإن هذا القرآن شاهد بذاته، بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير، على أنه من عند الله.. وهم لم يكونوا يجحدون الله.. وهم- على وجه التأكيد- كانوا يحسون ذلك ويعرفونه.. كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية؛ ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى- وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة. وكل من مارس فن القول يدرك إدراكاً واضحاً أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا؛ لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه! كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقادي والمنهج الذي يتخذه لتقرير هذا الاعتقاد في الإدراك البشري، ونوع المؤثرات واللمسات الموحية.. كلها غير معهود في طبيعة التصورات البشرية والمناهج البشرية، والطرائق البشرية في الأداء النفسي والتعبيري أيضاً.. والعرب لم يكن يخفى عليهم الشعور بهذا في قرارة نفوسهم. وأقوالهم ذاتها وأحوالهم تقرر أنهم ما كانوا يشكون في أن هذا القرآن من عند الله..
وهكذا يبدو أن هذه الاقتراحات لم تكن طلبا للبرهان؛ إنما كانت وسيلة من وسائل الإعنات؛ وأسلوباً من أساليب التعنت؛ وخطة للمماحكة والمعاندة؛ وأنهم كانوا كما قال الله سبحانه عنهم في الآية السابقة: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين}!
والحقيقة الثانية: أن العرب كانوا يعرفون الملائكة؛ وكانوا يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكاً يدعو معه ويصدقه.. ولكنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة هذا الخلق التي لا يعلمها إلا الله؛ وكانوا يخبطون في التيه بلا دليل في تصور هذا الخلق؛ وفي نوع علاقته بربه؛ ونوع علاقته بالأرض وأهلها.. وقد حكى القرآن الكريم كثيراً من ضلالات العرب وأساطير الوثنية حول الملائكة؛ وصححها كلها لهم ليستقيم تصور من يهتدي بهذا الدين منهم؛ وتصح معرفتهم لهذا الكون وما يعمره من خلائق.
وكان الإسلام- من هذا الجانب- منهجاً لتقويم العقل والشعور، كما كان منهجاً لتقويم القلب والضمير، ومنهجاً لتقويم الأوضاع والأحوال سواء..
وحكى القرآن الكريم من أضاليل العرب ومن جهالاتهم في جاهليتهم، أنهم كانوا يظنون أن الملائكة بنات الله! سبحانه وتعالى عما يصفون! وأنهم- من ثم- لهم شفاعة عند الله لا ترد! والراجح أن بعض كبار الأصنام كانت رموزاً للملائكة! كما حكى قولهم هذا في طلبهم أن ينزل الله على رسوله ملكاً ليصدقه في دعواه..
وقد صحح لهم القرآن ضلالتهم الأولى في مواضع منه شتى. كالذي جاء في سورة النجم:
{أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً} كما صحح لهم ضلالتهم الثانية في تصورهم لطبيعة الملائكة في هاتين الآيتين في هذه السورة وفي مواضع أخرى كثيرة:
{وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون}..
وهذا جانب من التعريف بهذا الخلق من عباد الله.. إنهم يقترحون أن ينزل الله ملكاً، ولكن سنة الله أن ينزل الملائكة- حين ينزلون إلى الأرض على قوم كذبوا برسولهم- أن ينزلوا للتدمير عليهم، وتحقيق أمر الله فيهم بالهلاك والدمار. ولو أن الله استجاب للمشركين من العرب فأنزل ملكاً، لقضي الأمر، وتم التدمير، ولم يُنظروا إلى مهلة بعد هذا التنزيل! فهل هذا ما يريدون وما يقترحون؟ وهلا يستشعرون رحمة الله في عدم إجابتهم لما يقترحون لأنفسهم من الهلاك المبين؟!.. هكذا يقفهم السياق وجهاً لوجه أمام رحمة الله بهم وحلمه عليهم؛ وأمام جهلهم بمصلحة أنفسهم، وجهلهم بسنة الله في تنزيل الملائكة.. وهم بهذا الجهل الذي يكاد يدمر عليهم حياتهم، يرفضون الهدى ويرفضون الرحمة ويتعنتون في طلب الدليل!
والجانب الثاني من التعريف بهذا الخلق من عباد الله تتضمنه الآية الثانية:
{ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون}..
إنهم يقترحون أن ينزل الله- سبحانه- ملكاً على رسوله صلى الله عليه وسلم يصدقه في دعواه.. ولكن الملائكة خلق آخر غير الخلق الإنساني.
خلق ذو طبيعة خاصة يعلمها الله. وهم- كما يقول الله عنهم، ونحن لا علم لنا بهم إلا مما يقوله عنهم الذي خلقهم- لا يستطيعون أن يمشوا في الأرض بهيئتهم التي خلقهم الله عليها؛ لأنهم ليسوا من سكان هذا الكوكب؛ ولكن لهم- مع ذلك- من الخصائص ما يجعلهم يتخذون هيئة البشر حين يؤدون وظيفة من وظائفهم في حياة البشر؛ كتبليغ الرسالة؛ أو التدمير على من يريد الله أن يدمر عليهم من المكذبين؛ أو تثبيت المؤمنين، أو قتال أعدائهم وقتلهم.. إلى آخر الوظائف التي يقص القرآن الكريم أنهم يكلفون بها من ربهم، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
فلو شاء الله أن يرسل ملكاً يصدق رسوله، لتبدى للناس في صورة رجل- لا في صورته الملائكية- وعندئذ يلتبس عليهم الأمر مرة أخرى! وإذا كانوا يلبسون على أنفسهم الحقيقة ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أنا محمد الذي تعرفونه أرسلني الله إليكم لأنذركم وأبشركم.. فكيف يكون اللبس إذا جاءهم ملك- في صورة رجل لا يعرفونه- يقول لهم: أنا ملك أرسلني الله لأصدق رسوله.. بينما هم يرونه رجلاً كأي منهم؟! إنهم يلبسون الحقيقة البسيطة. فلو أرسل الله ملكاً لجعله رجلاً وللبس عليهم الحقيقة التي يلبسونها؛ ولما اهتدوا قط إلى يقين!
وهكذا يكشف الله- سبحانه- جهلهم بطبيعة خلائقه، كما كشف لهم جهلهم في معرفة سنته.. وذلك بالإضافة إلى كشف تعنتهم وعنادهم بلا مبرر، وبلا معرفة، وبلا دليل!
والحقيقة الثالثة التي يثيرها النص القرآني في الفكر: هي طبيعة التصور الإسلامي ومقومات هذا التصور- ومن بينها تلك العوالم الظاهرة والمغيبة التي علم الإسلامُ المسلمَ أن يدركها أولاً، وأن يتعامل معها أخيراً- ومن بين تلك العوالم المغيبة عالم الملائكة.. وقد جعل الإسلام الإيمان بها مقوماً من مقومات الإيمان، لا يتم الإيمان إلا به.. الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره..
وقد سبق أن ذكرنا في هذه الظلال ونحن نتحدث عن مطلع سورة البقرة: ما ملخصه أن الإيمان بالغيب نقلة في حياة الإنسان ضخمة؛ لأن خروجه من دائرة المحسوس الضيقة إلى إدراك أن هناك غيباً مجهولاً يمكن وجوده ويمكن تصوره، هو- بلا شك- نقلة من دائرة الحس الحيواني إلى مجال الإدراك الإنساني. وأن إغلاق هذا المجال دون الإدراك الإنساني نكسة به إلى الوراء؛ وهو ما تحاوله المذاهب المادية الحسية؛ وتدعوه تقدمية! وسنتحدث- إن شاء الله- بشيء من التفصيل عن الغيب عندما نواجه في هذه السورة قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} فنقصر الحديث هنا عن الملائكة، من عالم الغيب.